مصيلحي، بدوي ، فتحي ، المليجي
جمعتهم رغبة واحدة و سارت بهم في تلك الليلة الحالكة السواد، نحو هذا القصر الصغير الموجود على أطراف القرية، و ذلك من أجل قتل رجل واحد ... يحمل اسم سعيد .
كان المليجي هو خادم سعيد بك عين أعيان هذه القرية، و لم يكن فقط يلعب دور الخادم بقدر ما كان يلعب دور مدير أعماله بالقرية نظراً لأن سعيد بك لا يأتي إلى القصر الخاص به إلا كل فترة لمتابعة الأعمال و يختار الليل زمناً لمجيئه حتى لا يظهر أمام الأعين و يرحل عند الفجر و قبل أن يستيقظ أحد.
كان سعيد بك يفعل ذلك الأمر من أجل يتهرب عن أعين أشخاص بعينها و هم أفراد عائلة عبد الرحيم و الذي قُتل على يد والد سعيد بك و أصبح على الابن أن يدفع الثمن، لذا فقد قام بنقل مسكنه و كل شيء للقاهرة و لم يعد يأتي إلى القرية إلا كل فترة.
لم تكن تلك الليلة مثل الليالي السابقة فسوف يعود سعيد بك و يأخذ كل شيء معه بعد أن باع الأرض و القصر ليتجه صوب القاهرة، و أمر خادمه المليجي بتجهيز كل الأشياء من أموال و أوراق، و لذا كان الخادم يعيش أسوء فترة في حياته كلها، نظراً لأنه اضطر إلى أن يأخذ كمية كبيرة من الأموال في الأيام الماضية و سوف يكتشف سعيد بك هذا الأمر عندما يعود و يأخذ كل الأموال من الدولاب و يراجع الحسابات، و بسبب هذا فقد قرر المليجي أن يتخلص من سيده .
كان تفكير المليجي يكمن في إخبار مصيلحي أبن الشيخ عبد الرحيم بميعاد عودة سعيد بك و مساعدته في الدخول إلى القصر و بالتالي يقوم مصيلحي بالتخلص من هذا الرجل و الأخذ بالثأر و يخرج المليجي من ورطته، و لهذا اتفق الأخير مع مصيلحي على أن يترك له شباك المطبخ الحديدي مفتوح ليدخل منه و ينفذ جريمته.
كان هذا الأمر هو ما ينتظره مصيلحي طيلة سبع سنوات كاملة لذا لم يكن ليترك تلك الفرصة تمر من أمامه و قد وافق على عرض المليجي بعد أن أوهمه الأخير بأنه يفعل ذلك الأمر لرغبته في الانتقام من سعيد بك الذي ضحك على ابنته، و لم لا يوافق مصيلحي !؟ و خاصةً أن وجود المليجي في القصر كان يعني شيء واحد و هو عدم الاقتراب منه نظراً لأن المليجي كان غفيراً قوياً يُلقب بالشيطان و من المستحيل أن يقترب شخص من القصر و هو فيه و الآن هذا الشيطان هو من يتفق معه .
توجه مصيلحي صوب عمه بدوي ليخبره بالأمر و يؤكد له أن اليوم الذي انتظره طيلة سنوات قد جاء الآن و لكنه لم يخبره بأمر المليجي خشية أن يفشل موضوع اليوم و بالتالي قد يتعرض المليجي للشبهات و من ثم يفقد مصيلحي ورقة رابحة قد يحتاجها ثانية، و لهذا فقد أخبر عمه بأنه عرف أن سعيد بك سوف يأتي اليوم و سيكون بمفرده و عليه فسوف يذهب ليقتله بعد أن يدخل القصر بأي طريقة.
ظل بدوي يفكر بالأمر بعد أن رحل مصيلحي فهو يعلم أن ابن شقيقه ربما يفشل و لذا فقد عقد العزم على أن يذهب ليقتل سعيد بك و ذلك دون أن يخبر مصيلحي و خصوصاً أنه كان يرى أن العقبة الوحيدة في قتل سعيد بك هو خادمه المليجي الذي عادةً يرافق سيده في كل خطوة بل و يشاركه هذه المهمة شخصان من عائلة الغفير،و لذلك فقد رأى في هذه الليلة فرصة ذهبية لن تتكرر لأنه كان يريد دائماً أن يثأر و لكن دون أن يتعرض هو أو أحد من عائلته لأي أذى وقت أخذ الثأر و لذا فقد أخبر ابن شقيقه مصيلحي بأنه لو رأى المليجي فإن عليه أن يعود فوراً و يترك الثأر لمرة أخرى و قد تظاهر مصيلحي بالموافقة، و لم يُحدث بدوي أحد بالأمر سوى أبوه ليخبره بأنه سيذهب ليثأر من سعيد بك.
كان فتحي الشقيق الأصغر لمصيلحي يعمل على تنظيف بيت الجد عندما وصل إلى مسامعه صوت عمه بدوي و هو يتحدث عن وجود سعيد بك بمفرده في هذه الليلة بالقصر و أنه سيذهب ليأخذ بالثأر ، و هنا جن جنون فتحي لأن أبيه قد قُتل أمام عينيه و لذلك فهو يري أنه الأحق بهذا الثأر من أي أحد، و عليه فقد قرر التوجه إلى القصر عند المساء حتى ينال حقه.
وصل سعيد بك في تمام الساعة العاشرة مساءً و نزل من سيارته و بسرعة دخل إلى القصر و سرعان ما نادي على المليجي و أخبره بأن يعد له كوب من الشاي الساخن و يُحضره له بغرفة المكتب.
توجه المليجي إلى المطبخ ليعد الشاي بينما كان عقله مع تصرفات سيده خشية أن يتجه إلى الدولاب الموجود بغرفة النوم بالدور العلوي و يأخذ المظروف البني الذي يوجد به الأموال و يقوم بعدها و عندها سيكتشف نقص الأموال إذا ما تمت مقارنتها بالحسابات، و لذا فقد قرر المليجي أن يتخلص من سيده بنفسه لو لم يأت مصيلحي في هذه الليلة أو لو قام سيده بمراجعة النقود قبل مجيء مصيلحي، و لكنه كان يستبعد العمل الأخير لأن سعيد بك اعتاد أن يقوم بمطالعة الأوراق أولاً و يذهب لينام ساعات قليلة و عندما يستيقظ بالفجر يقوم بعد النقود ثم يسافر بعدها مباشرة للقاهرة .
اتجه المليجي بهدوء نحو شباك المطبخ الحديدي المحكم الغلق و قام بفتح قفله القوي و هو يتمنى أن يأتي مصيلحي سريعاً لينتهي هذا الأمر و بعد ذلك أخذ الشاي و توجه به إلى سيده، و على جانب آخر و عند الحادية عشرة إلا الربع مساءً كان العم بدوي قد قرر أن يسبق ابن شقيقه إلى القصر، و بالفعل توجه صوب السور الخلفي و قفز من عليه، و توجه صوب النوافذ الخلفية الواحدة تلو الأخرى ليفحصها إلى أن تنفس الصعداء عندما وجد شباك المطبخ الحديدي مفتوح، فقام بالدخول منه و أغلقه وراءه بإحكام خشية أن يشتد الهواء و يطيح به يميناً و يساراً فيلفت انتباه سعيد بك، و ما كاد يغلقه حتى سمع صوت خطوات تقترب من المطبخ فقام بالاختباء في دولاب صغير يستخدم في تخزين المؤن.
دخل المليجي المطبخ و هو يقول " حسناً ملعقة أخرى من السكر " ثم تحدث بصوت عالي قوي و قال " سيدي هل تريد ملعقة أم ملعقتين " و ما أن سمع الرد حتى قام بوضع الملعقة، و قبل أن يخرج لمح بعينيه أن نافذة المطبخ مغلقة فابتسم بخبث شديد للغاية و توجه صوب سيده بغرفة المكتب و أعطاه الشاي و تأمله و هو يراجع الأوراق و تمنى أن يذهب سيده لينام.
توجه المليجي إلى الخارج و دخل غرفته الموجودة بجوار غرفة المكتب و أغلق الباب وراءه و تحسس مسدسه المرخص و هو يتمنى أن يأتي يوم غد ليجد سيده قتيلاً و راح في دقائق قليلة للغاية في حالة من الشرود و التأمل و تذكر أن الخطة المعدة، هي أن يقوم مصيلحي بالدخول من شباك المطبخ و التوجه نحو الدور العلوي للاختباء بغرفة النوم أو الحمام و ينتظر سعيد بك و يقوم بقتله و كان المليجي يريد أن يقوم مصيلحي بالأمر لأنه يعلم أن مصيلحي سوف يتفاخر بعد ذلك بالثأر و بالتالي ستبتعد الشبهات عن الخادم و ربما يترك أثر أو شيء ليؤكد الشبهات و في حال إن فشل أمر القتل سيظل المليجي أمام سعيد بك في صورة الخادم الوفي .
أثناء تأملات المليجي بغرفته كان سعيد بك قد صعد للغرفة ليأخذ الظرف البني الموجود به الأموال – على غير العادة - حتى يراجع ما به بعد الانتهاء من مراجعة الأوراق، و ما هي إلا دقيقة حتى عاد سعيد بك و معه الظرف و وضعه في حقيبته السوداء الجلدية و قام بإغلاقها و قام بالنداء على المليجي ، الذي خرج من غرفته بسرعة و توجه لسيده بغرفة المكتب.
في هذه الأثناء كان مصيلحي قد قفز إلى القصر و توجه صوب شباك المطبخ و لكنه وجده مغلق فتعجب من هذا الأمر و سرعان خرج من القصر و ظل يفكر في كيفية التخلص من سعيد بك بعد أن واتته فرصة عمره بالاتفاق مع المليجي، لذا فقد لف حول سور القصر من الخارج و قفز من المنطقة الأمامية للسور و بحذر شديد قام بالتوجه إلى شجرة كبيرة تقع أمام شباك غرفة مكتب سعيد بك مباشرة و لا تبتعد عنه سوى عشرين متر، كما أنها تكشف باب القصر أيضاً، و بسرعة صعد مصيلحي على الشجرة العتيقة الكبيرة و تحسس بندقيته و تمنى أن يخرج الرجل من الباب و لو لدقيقة واحدة حتى يثأر من قاتل والده و دارت بداخله تساؤلات عديدة عن عدم فتح المليجي للشباك و لكنه برر الأمر بأن الهواء قد أغلق الشباك مرة أخرى، و لذلك فسينتظر خروج سعيد بك في أي وقت.
توجه المليجي مرة أخرى إلى غرفته بناء على أمر سيده الذي طلب منه أن يقوم بمراجعة بعض الدفاتر المالية و أن يُسرع لأن هذا الأمر قد يأخذ وقت لا يقل عن ساعة و بالفعل دخل المليجي الغرفة و أغلق الباب وراءه و تأمل الساعة و التي أصبحت الحادية عشرة و النصف و بدأ في العمل و هو يتمنى أن يذهب سيده لينام قبل أن يأتي الفجر و يأخذ الظرف البني من الدولاب الموجودة بالدور العلوي .
كان فتحي الشقيق الأصغر لمصليحي يعرف سراً لا يعرفه الآخرون و هو وجود باب بدروم صغير للغاية يكاد يكون مدفوناً في الأرض و مغطى بالنباتات، و هذا البدروم الصغير له من الداخل سلم حديدي حلزوني صغير في نهايته باب خشبي يفتح في جانب غرفة نوم بابها الرئيسي مواجه تماماً لباب غرفة مكتب سعيد بك، و هذا السر كان فتحي يعرفه عندما كان صغيراً و له صديق والدته كانت تعمل خادمة لوالدة سعيد بك المتوفاة، و كانت تأخذ من غرفة البدروم هذه غرفة نوم لها، و تأخذ من السلم الصغير الحلزوني معبراً سريعاً لسيدتها إذا ما طلبتها.
كان فتحي يعلم بأمر هذا السلم بل و يعلم بكيفية فتح باب غرفة البدروم المدفون في الأرض و كذلك بكيفية معالجة الباب الخشبي الجانبي، و لم يخبر أحد من قبل و خصوصاً بعد أن قُتل والده حتى يمكنه أخذ الثأر بنفسه.
دخل فتحي من الباب و تحسس طريقه جيداً وقت الظلام الدامس و صعد السلم الحديدي الحلزوني و قام بفتح الباب الجانبي و دخل الغرفة المغلقة و توجه صوب بابها الرئيسي المغلق و قام بفتحه بهدوء شديد و أطمئن إلى أن الباب غير مغلق بالمفتاح و لمح أمامه سعيد بك يجلس على مكتبه و يقوم بمطالعة الأوراق و تجول بعينه في المكان فلم يجد أحد فقام بغلق الباب مرة أخرى بهدوء شديد و أخرج من ملابسه مسدس و أطمئن إلى حشوه و راحت صورة والده المقتول ترتسم بعينيه و نظر إلى الساعة التي أعلنت عن الحادية عشرة و أربعون دقيقة.
قام سعيد بك بإشعال سيجارة و نهض من مقعده و ظل يتأمل الأوراق و فجأة قرر مع نفسه أنه سيقوم بمراجعة الأموال بمجرد أن ينتهي هو و خادمه من مراجعة الأوراق و لن ينام هذه الليلة بل سيسافر إلى القاهرة .
توجه صوب شباك المكتب الصغير و قام بفتحه و نظر إلى الخارج إلى حيث السماء الداكنة و الشجرة العتيقة الكبيرة و تنفس بعمق و هو ينظر إلى الخارج و يمده يده ليتلمس نسمات الهواء في ذلك الوقت الذي قارب على الثانية عشرة مساءً و فجأة و بينما كان يتلمس نسمات الهواء بيديه و يتجه بنظراته للخارج...!!! شق سكون الليل صوت طلق ناري أعقبه صرخة انطلقت من سعيد بك قبل أن يسقط قتيلاً.
كان رجال المباحث يملئون المكان بعد اقل من ساعة واحدة بناء على اتصال من المليجي الذي قال أن سيده قد قُتل، و من المعاينة الأولى كان سعيد بك ملقى على الأرض و مصاب بطلق ناري في منتصف ظهره، بينما كانت أوراق مالية هامة موجودة على المكتب ، و تبين أن شباك المكتب مفتوح و كذلك شباك المطبخ الحديدي، رغم تأكيد المليجي أنه قام بإغلاق كل الشبابيك قبل أن يأتي سيده، و في الصباح الباكر كانت الأدلة تتوالي عندما وجد رجال المباحث حفرة صغيرة في الأرض الطينية المبللة التي تقع أسفل شباك المكتب مباشرة و بها بعض الزهور النضرة المقطعة الأوراق و المدهوسة، كما أن هناك آثار لأقدام على الطين تمتد حتى الممر الرخامي المؤدي للخارج، و قام رجال المباحث بكسر قفل الحقيبة السوداء ليجدوا ظرف الأموال البني و بقية من أوراق مالية هامة.
كانت الشبهات تدور حول من له مصلحة في قتل سعيد بك
مصيلحي و شقيقه فتحي و عمهما بدوي كانوا في طليعة المتهمين
و كذلك كان المليجي خادم المجنى عليه و خصوصاً أن صديق لسعيد بك أكد أن المجني عليه قد أعرب له عن شعوره بأن خادمه يسرقه.
من قتل سعيد بك
مصيلحي أم فتحي أم بدوي أم المليجي